فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

.فائدة: السبيل إلى معرفة الغيبيات:

احتج أهل الإسلام بهذه الآية على أنه لا سبيل إلى معرفة المغيبات إلا بتعليم الله تعالى وأنه لا يمكن التوصل إليها بعلم النجوم والكهانة والعرافة ونظيره قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59] وقوله: {عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 26، 27] وللمنجم أن يقول للمعتزلي إذا فسرت التعليم بوضع الدلائل فعندي حركات النجوم دلائل خلقها الله تعالى على أحوال هذا العالم فإذا استدللت بها على هذه كان ذلك أيضًا بتعليم الله تعالى، ويمكن أن يقال أيضًا إن الملائكة لما عجزوا عن معرفة الغيب فلأن يعجز عنه أحدنا كان أولى. اهـ.

.فائدة: اسم الله تعالى العليم:

قال الفخر:
العليم من صفات المبالغة التامة في العلم، والمبالغة التامة لا تتحقق إلا عند الإحاطة بكل المعلومات، وما ذاك إلا هو سبحانه وتعالى، فلا جرم ليس العليم المطلق إلا هو، فلذلك قال: {إنك أنت العليم الحكيم} على سبيل الحصر. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّكَ أَنتَ العليم الحكيم} تذييل يؤكد مضمون الجملة السابقة، ولما نفوا العلم عن أنفسهم أثبتوه لله تعالى على أكمل أوصافه وأردفوه بالوصف بالحكمة لما تبين لهم ما تبين وأصل الحكمة المنع ومنه حكمة الدابة لأنها تمنعها عن الاعوجاج، وتقال للعلم لأنه يمنع عن ارتكاب الباطل، ولإتقان الفعل لمنعه عن طرق الفساد والاعتراض وهو المراد هاهنا لئلا يلزم التكرار، فمعنى الحكيم ذو الحكمة، وقيل: المحكم لمبدعاته، قال في البحر: وهو على الأول صفة ذات، وعلى الثاني صفة فعل، والمشهور أنه إن أريد به العليم كان من صفات الذات أو الفاعل لما لا اعتراض عليه كان من صفات الفعل فافهم.
وقدم سبحانه الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة لمناسبة ما تقدم من {أنبؤني} [البقرة: 31] و{سبحانك لاَ عِلْمَ لَنَا} ولأن الحكمة لا تبعد عن العلم وليكون آخر مقالتهم مخالفًا لما يتوهم من أولها، و{أَنتَ} يحتمل أن يكون فصلًا لا محل له على المشهور يفيد تأكيد الحكم، والقصر المستفاد من تعريف المسند، وقيل: هو تأكيد لتقرير المسند إليه، ويسوغ في التابع ما لا يسوغ في المتبوع، وقيل: مبتدأ خبره ما بعده، والحكيم إما خبر بعد خبر أو نعت له وحذف متعلقهما لإفادة العموم، وقد خصهما بعض فقال: العليم بما أمرت ونهيت الحكيم فيما قضيت وقدرت والعموم أولى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

و{العليم} الكثير العلم وهو من أمثلة المبالغة على الصحيح ويجوز كونه صفة مشبهة على تقدير تحويل علِم المكسور اللام إلى علُم بضم اللام ليصير من أفعال السجايا نحو ما قررناه في الرحيم ونحن في غنية عن هذا التكلف إذ لا ينبغي أن يبقى اختلاف في أن وزن فعيل يجيء لمعنى المبالغة وإنما أنشأ هذه التمحلات من زعموا أن فعيلًا لا يجيء للمبالغة.
{الحكيم} فعيل من أَحكم إذا أتقن الصنع بأن حاطه من الخلل.
وأصل مادة حكم في كلام العرب للمنع من الفساد والخلل ومنه حكمة الدابة بالتحريك للحديدة التي توضع في فم الفرس لتمنعه من اختلال السير، وأحكم فلان فلانًا منعه قال جرير:
أبني حنيفة أحكموا سُفهَاءكم ** إني أَخافُ عليكم أن أَغْضَبا

والحكمة بكسر الحاء ضبط العلم وكماله، فالحكيم إما بمعنى المتقن للأمور كلها أو بمعنى ذي الحكمة وأيًّا ما كان فقد جرى بوزن فعيل على غير فعل ثلاثي وذلك مسموع قال عمرو بن معدي كرب:
أمن رَيحانة الدَّاعي السَّميع ** يؤرقُني وأصحابي هجوع

ومن شواهد النحو ما أنشده أبو علي ولم يعزه:
فمن يك لم يُنجِب أبوه وأمه ** فإن لنا الأمَّ النجيبةَ والأبُ

أراد الأم المنجبة بدليل قوله: لم ينجب أبوه وفي القرآن {بديع السماوات والأرض} [البقرة: 117] ووَصف الحكيم والعرب تجري أوزان بعض المشتقات على بعض فلا حاجة إلى التكلف بتأول {بديع السماوات والأرض} ببديع سماواته وأرضه أي على أن أل عوض عن المضاف إليه فتكون الموصوف بحكيم هو السماوات والأرض وهي محكمة الخلق فإن مساق الآية تمجيد الخالق لا عجائب مخلوقاته حتى يكون بمعنى مفعول، ولا إلى تأويل الحكيم بمعنى ذي الحكمة لأن ذلك لا يجدي في دفع بحث مجيئه من غير ثلاثي.
وتعقيب العليم بالحكيم من إتباع الوصف بأخص منه فإن مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم لأن الحكمة كمال في العلم فهو كقولهم خطيب مصقع وشاعر مفلق.
وفي معارج النور للشيخ لطف الله الأرضرومي: وفي الحكيم ذو الحكمة وهي العلم بالشيء وإتقان عمله وهو الإيجاد بالنسبة إليه والتدبير بأكمل ما تستعد له ذات المدبر بفتح الباء والاطلاع على حقائق الأمور. اهـ.
وقال أبو حامد الغزالي في المقصد الأسنى: الحكيم ذو الحكمة والحكمة عبارة عن المعرفة بأفضل الأشياء، فأفضل العلوم العلم بالله وأجل الأشياء هو الله وقد سبق أنه لا يعرفه كنه معرفته غيره وجلالة العلم بقدر جلالة المعلوم فهو الحكيم الحق لأنه يعلم أجل الأشياء بأجل العلوم إذ أجل العلوم هو العلم الأزلي القديم الذي لا يتصور زواله المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرق إليها خفاء، ولا شبهة ولا يتصور ذلك إلا في علم الله. اهـ.
وسيجئ الكلام على الحكمة عند قوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء} [البقرة: 269].
و{أنت} في {إنك أنت العليم الحكيم} ضمير فصل، وتوسيطه من صيغ القصر فالمعنى قصر العلم والحكمة على الله قصر قلب لردهم اعتقادهم أنفسهم أنهم على جانب من علم وحكمة حين راجعوا بقولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها} [البقرة: 30] أو تنزيلهم منزلة من يعتقد ذلك على الاحتمالين المتقدمين، أو هو قصر حقيقي ادعائي مراد منه قصر كمال العلم والحكمة عليه تعالى. اهـ.

.قال الفخر:

إن الله تعالى لما أمر آدم عليه السلام بأن يخبرهم عن أسماء الأشياء وهو عليه الصلاة والسلام أخبرهم بها فلما أخبرهم بها قال سبحانه وتعالى لهم عند ذلك: {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرض} والمراد من هذا الغيب أنه تعالى كان عالمًا بأحوال آدم عليه السلام قبل أن يخلقه وهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها، وذلك يدل على بطلان مذهب هشام بن الحكم في أنه لا يعلم الأشياء إلا عند وقوعها، فإن قيل الإيمان هو العلم، فقوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بالغيب} يدل على أن العبد يعلم الغيب فكيف قال هاهنا: {إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرض} والإشعار بأن علم الغيب ليس إلا لي وأن كل من سواي فهم خالون عن علم الغيب وجوابه ما تقدم في قوله: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} أما قوله: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} ففيه وجوه: أحدها: ما روى الشعبي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم أن قوله: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} أراد به قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} وقوله: {وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} أراد به ما أسر إبليس في نفسه من الكبر وأن لا يسجد: وثانيها: {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من الأمور الغائبة والأسرار الخفية التي يظن في الظاهر أنه لا مصلحة فيها ولكني لعلمي بالأسرار المغيبة أعلم أن المصلحة في خلقها.
وثالثها: أنه تعالى لما خلق آدم رأت الملائكة خلقًا عجيبًا فقالوا ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقًا إلا كنا أكرم عليه منه فهذا الذي كتموا ويجوز أن يكون هذا القول سرًا أسروه بينهم فأبداه بعضهم لبعض وأسروه عن غيرهم فكان في هذا الفعل الواحد إبداء وكتمان.
ورابعها: وهو قول الحكماء أن الأقسام خمسة لأن الشيء إما أن يكون خيرًا محضًا أو شرًا محضًا أو ممتزجًا وعلى تقدير الامتزاج فإما أن يعتدل الأمر أن أو يكون الخير غالبًا أو يكون الشر غالبًا أما الخير المحض فالحكمة تقتضي إيجاده وأما الذي يكون فيه الخير غالبًا فالحكمة تقتضي إيجاده لأن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير فالملائكة ذكروا الفساد والقتل وهو شر قليل بالنسبة إلى ما يحصل منهم من الخيرات فقوله: {إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرض} فأعرف أن خيرهم غالب على هذه الشرور فاقتضت الحكمة إيجادهم وتكوينهم. اهـ.
قال الفخر:
اعلم أن في هذه الآية خوفًا عظيمًا وفرحًا عظيمًا أما الخوف فلأنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أحوال الضمائر فيجب أن يجتهد المرء في تصفية باطنه وأن لا يكون بحيث يترك المعصية لاطلاع الخلائق عليها ولا يتركها عند اطلاع الخالق عليها والأخبار مؤكدة لذلك.
أحدها: روى عدي بن حاتم أنه عليه الصلاة والسلام قال: «يؤتى بناس يوم القيامة فيؤمر بهم إلى الجنة حتى إذا دنوا منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله لأهلها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون عنها بحسرة ما رجع أحد بمثلها ويقولون يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا: فنودوا ذاك أردت لكم كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم وإذا لقيتم الناس لقيتموهم بالمحبة مخبتين تراءون الناس بخلاف ما تضمرون عليه في قلوبكم هبتم الناس ولم تهابوني أجللتم الناس ولم تجلوني تركتم المعاصي للناس ولم تتركوها لأجلي كنت أهون الناظرين عليكم فاليوم أذيقكم أليم عذابي مع حرمتكم من النعيم».
وثانيها: قال سليمان بن علي لحميد الطويل: عظني فقال إن كنت إذا عصيت الله خاليًا ظننت أنه يراك فلقد اجترأت على أمر عظيم، وإن كنت ظننت أنه لا يراك فلقد كفرت.
وثالثها: قال حاتم الأصم: طهر نفسك في ثلاثة أحوال: إذا كنت عاملًا بالجوارح فاذكر نظر الله إليك.
وإذا كنت قائلًا فاذكر سمع الله إليك، وإذا كنت ساكتًا عاملًا بالضمير فاذكر علم الله بك إذ هو يقول: {إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وأرى} [طه: 46].
ورابعها: اعلم أنه لا اطلاع لأحد على أسرار حكمة الله تعالى، فالملائكة وقع نظرهم على الفساد والقتل فاستحقروا البشر.
ووقع نظرهم على طاعة إبليس فاستعظموه، أما علام الغيوب فإنه كان عالمًا بأنهم وإن أتوا بالفساد والقتل لكنهم سيأتون بعده بقولهم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف: 23] وأن إبليس وإن أتى بالطاعات لكنه سيأتي بعدها بقوله: {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} ومن شأن العقل أن لا يعتمد على ما يراه وأن يكون أبدًا في الخوف والوجل، فقوله تعالى: {إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات} معناه أن الذي أعرف الظاهر والباطن والواقع والمتوقع واعلم أنه ما ترونه عابدًا مطيعًا سيكفر ويبعد عن حضرتي، ومن ترونه فاسقًا بعيدًا سيقرب من خدمتي، فالخلق لا يمكنهم أن يخرجوا عن حجاب الجهل ولا يتيسر لهم أن يخرقوا أستار العجز فإنهم لا يحيطون بشيء من علمه.
ثم إنه سبحانه حقق من علم الغيب وعجز الملائكة أن أظهر من البشر كمال العبودية ومن أشد ساكني السموات عبادة كمال الكفر لئلا يغتر أحد بعمله ويفوضوا معرفة الأشياء إلى حكمة الخالق ويزيلوا الاعتراض بالقلب واللسان عن مصنوعاته ومبدعاته. اهـ.

.قال القرطبي:

الواجب على مَن سُئل عن علم أن يقول إن لم يعلم: الله أعلم ولا أدري، اقتداء بالملائكة والأنبياء والفضلاء من العلماء، لكن قد أخبر الصادق أنّ بموت العلماء يقبض العلم؛ فيبقى ناس جُهّال يُستفتَوْن فيُفتون برأيهم فَيضِلّون ويُضلّون.
وأما ما ورد من الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين بعدهم في معنى الآية فروَى البُسْتِيّ في المسند الصحيح له عن ابن عمر أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ البقاع شرّ؟ قال: «لا أدري حتى أسأل جبريل» فسأل جبريل؛ فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل؛ فجاء فقال: «خير البقاع المساجد، وشرّها الأسواق» وقال الصّديق للجَدّة: ارجعي حتى أسأل الناس.
وكان عليّ يقول: وأَبردها على الكبد؛ ثلاث مرات.
قالوا وما ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: أن يُسْأَل الرجلُ عما لا يعلم فيقول: الله أعلم.
وسأل ابن عمر رجلٌ عن مسألة فقال: لا علم لي بها؛ فلما أدبر الرجل.
قال ابن عمر: نِعم ما قال ابن عمر، سُئل عما لا يعلم فقال لا علم لي به! ذكره الدّارمِيّ في مسنده.
وفي صحيح مسلم عن أبي عَقيل يحيى بن المتوكل صاحب بُهَيّة قال: كنت جالسًا عند القاسم بن عبيد الله ويحيى بن سعيد، فقال يحيى للقاسم: يا أبا محمد إنه قبيح على مثلك عظيمٌ أن يُسأل عن شيء من أمر هذا الدّين فلا يوجد عندك منه عِلْمٌ ولا فَرَج، أو عِلْمٌ ولا مَخْرَج؟ فقال له القاسم: وعَمّ ذاك؟ قال: لأنك ابن إمامَيْ هُدًى: ابن أبي بكر وعمر.
قال يقول له القاسم: أقْبَحُ من ذاك عند مَن عَقل عن الله أن أقول بغير علم أو آخذ عن غير ثقة.
فسكت فما أجابه.
وقال مالك بن أنس: سمعت ابن هُرْمُز يقول: ينبغي للعالم أن يُوَرّث جلساءه من بعده لا أدري حتى يكون أصلًا في أيديهم؛ فإذا سُئل أحدهم عما لا يدري قال: لا أدري.
وذكر الهَيْثَم بن جميل قال: شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري.
قلت: ومثلُه كثيرٌ عن الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين، وإنما يحمل على ترك ذلك الرياسةُ وعدم الإنصاف في العلم.
قال ابن عبد البَرّ: مِن بركة العلم وآدابه الإنصافُ فيه، ومن لم يُنصف لم يفهم ولم يتفهّم.
روى يونس بن عبد الأعلى قال سمعت ابن وَهَبْ يقول سمعت مالك ابن أنس يقول: ما في زماننا شيء أقلّ من الإنصاف.
قلت: هذا في زمن مالك فكيف في زماننا اليوم الذي عمّ فينا الفساد وكثر فيه الطَّغام! وطُلب فيه العلم للرياسة لا للدّراية، بل للظهور في الدنيا وغلبة الأقران بالمِراء والجدال الذي يُقْسِي القلب ويُورث الضِّغن؛ وذلك مما يحمل على عدم التقوى وترك الخوف من الله تعالى.
أين هذا مما رُوي عن عمر رضي الله عنه وقد قال: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أُوقِيَّة ولو كانت بنت ذي العَصبة يعني يزيد بن الحُصين الحارثي فمن زاد ألقيت زيادته في بيت المال؛ فقامت امرأة من صَوْب النساء طويلةٌ فيها فَطَس فقالت: ما ذلك لك! قال: ولم؟ قالت لأن الله عز وجل يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ! وروى وَكيع عن أبي معشر عن محمد بن كعب القُرَظِي قال: سأل رجل عليًّا رضي الله عنه عن مسألة فقال فيها؛ فقال الرجل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كذا وكذا؛ فقال عليّ: أصبتَ وأخطأتُ، وفوق كل ذي عِلْمٍ عليم.
وذكر أبو محمد قاسم بن أَصْبَغَ قال: لمّا رحلتُ إلى المشرق نزلت القَيْرَوان فأخذت على بكر بن حماد حديثَ مُسدّد، ثم رحلتُ إلى بَغداد ولقيت الناس، فلما انصرفت عدتُ إليه لتمام حديث مسدّد، فقرأت عليه فيه يومًا حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنه قدم عليه قوم من مُضَرَ مِن مُجْتابِي النِّمَار فقال: إنما هو مُجْتابي الثّمار؛ فقلت إنما هو مُجتابي النمار؛ هكذا قرأته على كل من قرأته عليه بالأندلس والعراق؛ فقال لي: بدخولك العراق تُعارضنا وتفخَر علينا! أو نحو هذا.
ثم قال لي: قم بنا إلى ذلك الشيخ لشيخ كان في المسجد فإن له بمثل هذا عِلمًا؛ فقمنا إليه فسألناه عن ذلك فقال: إنما هو مُجْتابي النّمار، كما قلت.
وهم قوم كانوا يلبسون الثياب مشققة، جيوبُهم أمامَهم.
والنّمار جمع نمرة.
فقال بكر بن حماد وأخذ بأنفه: رَغِم أنْفِي للحق، رَغِم أنفي للحق.
وانصرف.
وقال يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأحسن:
إذا ما تحدّثتُ في مجلسٍ ** تَناهَى حديثي إلى ما عَلِمتُ

ولم أَعْدُ علمي إلى غيره ** وكان إذا ما تناهَى سَكتُّ